و من وراء موريتانيا السنغال…
تانيد ميديا : أُجريت قبل ثلاثة أشهر انتخابات رئاسية في البلد الشقيق السينغال، تمخضت نتائجها عن فوز مرشَّح حزب باستيف المعارض الرئيس باسيرو جوماي فاي إثر حصاده 58% من أصوات الناخبين؛ ليكون بذلك رسميا رئيسا للبلد لخمس السنوات المقبلة.
لكن ما أثار ذهول الرأي الإقليمي والعالمي في الحدث هو السياق الناتج للحدث، حيث كان المشهد يموج باضطرابات سياسية وأمنية، كادت أن تودي باستقرار البلد، وبمعجزة شعبية؛ عبّد الرئيس طريقه من ضيق السجن إلى فسحة القصر، دون عناء كبير في الحملات الانتخابية، تجسيدا للإرادة الشعبية، ذلك ما يوحي إليه سيرته ومساره الشخصي.
وإذ الحال كذلك فقد قدم فخامته تجربة ملهمِة في تغيير مجرى الأحداث وتقليد الحكم، في إقليم مضرب المثل في قلة التناوب السلمي للسلطة.
بناءً على ذلك، فهل يمكن اعتبار التجربة السينغالية تجربة قابلة للتكرار وإن بشكل آخر في بلد مجاور مثل موريتانيا؟
أو بمعنى آخر هل من المشروع التكهن بنسخة موريتانية للتجربة السينغالية في انتخابات 29 يوليو الجاري؟
لمحاولة تحليل هذا التساؤل، ارتأيت عقد مقارنة بسيطة بين السياقين السينغالي والموريتاني، وفي ضوء ذلك يمكن التكهن باحتمالية تكرار تجربة الجارة السينغال في موريتانيا من عدمها، لطالما أن الأحداث الجارية في أي بلد تُأثّر بالضرورة على البلدان المجاورة له بدرجات متفاوتة، كما شهدنا في واقع ثورات الربيع العربي، وما يجري حاليا في دول الساحل من التحرر من نفوذ فرنسا، وغيرهما من التجارب التاريخية، علاوة على ذلك فقد استقبل بعض نشطاء الموريتانيين فوز الرئيس السينغالي الجديد بقدر كبير من الحفاوة تتخللها روح الاستبشار والتفاؤل لعلّنا نتبع السينغال في غلبة النظام في الاستحقاقات الرئاسية المقبلة.
التأرجح بين انتصار وهزيمة النظام الحاكم: تقليدان متعاكسان.
من المشهود أن الديمقراطية السينغالية اشتدّ عودها منذ عهد رئيسها الثاني عبد ديوف 1981 ومن بعده تعاقب على رئاسة السينغال رؤساء منافسون للرئيس المنتهية مأموريته أو مرشح النظام، مثل فوز عبد الله واد على عبد ديوف في انتخابات 2000 وفوز ماكي سال بهزيمة عبد الله واد في انتخابات 2012، وأخيرا انتخاب الرئيس الحالي جوماي فاي منتصرا على مرشّح النظام آمادو با في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يتضح إذن أن الجمهورية السينغالية تتمتع بإرث ديمقراطي متراكم قلّ نظيره في غرب إفريقيا.
بينما يختلف الأمر اختلافا بارزا في جارتها من الشمال، إذْ يُؤرخ للتجربة الديمقراطية الموريتانية ابتداءً من سنة 1991 في فترة حكم الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، بيد أن تلك التجربة لم تكن محل إشادة في الغالب، وإنما اعتبرها البعض شكلية غير مصحوبة بإرادة سياسية تُذكر، وبحكم ذلك فقد طبعت عمليات الانتخابات اللاحقة مسلكيات وممارسات غير مرضية من طرف الفاعلين السياسيين والمعارضين على وجه الخصوص، كما توالت الانقلابات العسكرية التي كان آخرها انقلاب 2008 على أول رئيس مدني منتخَب في تاريخ البلد، بعد سنة وأربعة أشهر من توليه للحكم، ومن الجدير بالإشارة أن الرئيس الوحيد الذي بلغ إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع خارج دائرة الحزب الحاكم إلى الوقت الراهن.
انطلاقا من هذه الخلفية التاريخية – السياسية في آليات التداول على السلطة؛ في البلدين يتجلى الفرق بين التجربتين، وقد أسهم ذلك الفرق بنظري في تكوين وتحديد السيكولوجية السياسية لدى كل من الشعبين.
بين معارضة قاطعة ومعارضة متواطئة:
يعزى سبب اشتهار رئيس حزب باستيف إقليميا ودوليا عثمان سونكو إلى معارضته الشرسة لنظام الرئيس السابق ماكي سال، في الوقت الذي يتحدث فيه مجموعة واسعة بإنجازات الرئيس سال، فكانت لا تنفلت منه فرصة لنقد النظام وإعلان مساوئه، تدريجيا تحول إلى غصة في حلقة النظام، وشبح يقض مضجع الرئيس، فكان لزاما التخلص منه بأي وسيلة ممكنة تمثلت تلك المساعي في سلسلة من الاعتقالات بتهم واهية، جراء ذلك مُنع من الترشح في الانتخابات الرئاسية، مما اضطره وحزبه لتقديم مرشح بديل هو الرئيس الحالي للبلد جوماي فاي.
فيما شهد المشهد السياسي الموريتاني طيلة السنوات الخمس الأخيرة ما عُرف بـ”أزمة غياب المعارضة”، فقد نجح الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني بحنكة سياسية في تغيير قواعد الممارسة السياسية بين النظام والمعارضة باستراتيجيته المعروفة بـ”التهدئة السياسية” حيث فتح باب القصر على مصراعيه أمام قوى المعارضة، لعقد حوارات سياسية من أجل الوطن، وكلما دخل عليه معارض خرج بوجه غير الذي دخل به، يزكي الرئيس في حسن الإرادة والإدارة، الأمر الذي بث الأمل في نفوس الشعب في الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وما فتئت العلاقة بين ثنائية النظام والمعارضة التقليدية في وئام وتوافق، إلى أن تم استيعاب معظم شخصياتها البارزة في بوتقة الموالاة إما عن طريق بلورة مشروع مشترك مثل “الميثاق الجمهوري” أو مبادرة شخصية مثل إعلان بعضهم بدعمه للرئيس في الانتخابات المرتقبة، تأكيدا على ذلك؛ كانوا لانطلاق حملته الانتخابية شاهدين.
بين ترشح وزير وترشح رئيس منتهي الولاية:
في انتخاباته الرئاسية الماضية دفع الائتلاف الحاكم بالوزير الأول السابق آمادو با إلى معترك الانتخابات منافسا مرشحي المعارضة، لكن في واقع الأمر لم يكن با مرشحا مثاليا في نظر البعض بسبب عدم تمتعه بالشخصية القيادية السياسية، إذ كان طاعنا في التكنوقراطية، ومن وجهة أخرى يعتبر حليفا لخلفه سال مما يوحي أنه ينتهج نفس السياسة الاقتصادية التي لم تكن موفقة خاصة في السنوات الأخيرة من حكم نظام السابق، كل ذلك قلّل حظوظه في كسب ثقة الناخب السينغالي.
أما ترشح الرئيس ولد الغزواني لمأمورية ثانية فالأمر يختلف، فإلى جانب كونه نجح في إسكات المعارضة واحتوائها، فقد جسد جزءً من برنامجه الانتخابي الماضي رغم التحديات التي شهدتها مأموريته، كما أطلق مشاريع أخرى بنية إكمالها في المأمورية الثانية، زيادة على برنامجه الطموح بالنسبة للسنوات الخمس المقبلة، مما جعل قاعدة شعبية معتبرة تتحلق حول مشروعه من خلال حملاته الانتخابية في مختلف مدن البلاد.
تأسيسا على المعطيات السالفة السرد، لا يلوح لي احتمال حدوث التجربة السينغالية في موريتانيا في هذه الانتخابات، بسبب تباين السياقين والظروف السياسية، فالمعارضة السينغالية كانت معارضة نشطة وجادة لم يتمكن النظام من التخلص عنها لا بقوة ناعمة ولا بقوة خشنة، وإنما قفزت من أعالي جدران السجن إلى باحة القصر، في حين أن المعارضة الموريتانية تم الإجهاز عليها، كما أنها تعاني راهنا من حالة تشتيت ذهب بما تبقى من هيبتها، وعليه فإن مرشحيها لا يحظون بتلك القاعدة الجماهيرية التي يمكن الرهان عليها في هذه الانتخابات.